بقلم أدرييل سانشيز
ختم الرسولُ يوحنا رسالتَه الأولى بتحذيرٍ يترك وقْعًا غريبًا على آذان الإنسانِ المعاصِر: “أَيُّهَا الْأَوْلَادُ، احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ” (1 يوحنا 5: 21). في زمنِ الكتابِ المُقدَّس، كانت عبادةُ الأوثان جزءًا من المجتمع. كان للعالم اليوناني الروماني عددٌ كبيرٌ من الآلهة التي يعبدونها، مصنوعةً من الخشبِ والحَجَرِ والمعدَن. وفي أثناء زمنِ العهدِ القديم، حُذِّرَ إسرائيلُ مِرارًا كثيرة من أخطار عبادة الأوثان. هدَّدتْ آلهةُ الأممِ المُجاورةِ بإزاحةِ إلهِ السماء والأرض الحقيقي، وإنْ كنتَ مُطَّلِعًا على تاريخِ إسرائيل، فإنّهم كثيرًا ما نجحوا في فعل ذلك.
ولكن كيفَ يهربُ أهلُ العصرِ الحديث من عبادة الأوثان؟ هكذا عرَّف المُصلحُ البروتستانتي مارتن لوثر عبادة الأوثان: “كلُّ ما يتمسك به ويعتمدُ عليه قلبُك، فهذا هو إلهُك. إن ثقةَ القلب وإيمانَه وحدهما يصنعان الله والوثن”. بعبارةٍ أخرى، ليستِ الأصنامُ مُجرَّدَ تماثيلٍ صغيرةٍ نُوقِد البخورَ أمامَها؛ فقد تكون أفكارًا أو حتّى مشاعر. قد نُقيم من السُّلطة أو المتعة أو النجاح أو الأمان أوثانًا لنعبدها.[1]
ومع ذلك، فإنّ الإنسانَ المُعاصر مُولِعٌ بوثنٍ واحدٍ على وجه الخصوص، وهو وثن الذات. في سابقِ الأيامِ، كان الرجالُ والنساءُ يتطلَّعونَ إلى الخارج بحثًا عن إجاباتٍ عندَ آلهة الخشبِ والحَجرِ والمَعدن. أمَّا اليوم فإنّ سُلطتَنا النهائية وموضوعُ عبادتنا يكمنان في داخلنا. في داخل قلب الإنسان. على مدى مئات السنين الماضية، حدثَ تحوُّلٌ هائل بالاتّجاه نحو الداخلِ عندما يتعلَّقُ الأمرُ بكيفية تفكير الناس في الهُويَّة والسُّلطة. كتب المؤرِّخُ كارل ترومان (Carl Trueman):
قليلون هُم، إنْ وُجدوا، الذين يميلون إلى أن يجادلوا أنّ آراءَنا الأخلاقية ليست مؤسَّسة إلَّا على تفضيلاتِنا العاطفية. أمَّا الاعتماد على المشاعر كنظرية اجتماعية فيظهر أنّه يوفِّرُ طريقةً واضحة لفهم كيف يحيا مُعظمُ الناسِ حياتَهم بالفعل. “إنّي فقط أشعر أنّ هذا صحيحٌ”، “في قرارة نفسي أعلم أنّه أمرٌ صالحٌ”، وغيرها من العبارات الأخرى المماثلة التي نألفها جميعًا، وكلُّها تشيرُ إلى الأساسِ الذاتي والعاطفي الذي يحكم كثيرًا من المناقشات الأخلاقيَّة اليوم.[2]
أناسٌ كثيرون اليومَ يعبدون إلهَ مشاعرِهم المُتغيِّر، واضعين البشر في مركزِ العبادة.
على مدى سنوات نُمُوّي، كان المُتْحَفُ الذي أُفضِّلُ زيارته هو مُتْحَفُ الإنسان في حديقة بالبوا في سان دييجو. منذ وقتٍ ليس ببعيدٍ زُرْتُه مع أطفالي عندما علمتُ أنه بعدَ سنواتٍ عديدة، قرَّرَ المُتْحَفُ تغييرَ اسمِه إلى مُتْحَفِنا نحن. جاءت إعادةُ التسميةِ سعيًا من المُتْحَفِ إلى الشمولية، لكنّها وضعتنا نحن — أنا — في مركزِ دراسةِ العلومِ الإنسانيَّة. أبدلَ الإنسانُ الحديثُ عبادةَ الأبقارِ والطيورِ والنجومِ بعبادة الذات. نحنُ نطالب لأنفسِنا بالمكانة المَركزيَّة، مُعتقدين أنّه واجبٌ على الأشخاص المحيطين بنا جميعهم أن يسعوا إلى تحقيق سعادتنا الشخصية. عندما لا يعبدُنا الآخرون، وإذا فشلوا في أن يقدِّموا لنا المجدَ الواجب اللائق باسمنا، فإنّنا نعاقبُهم إذ نصبُّ عليهم جامَ غضبِ الآلهة، الذي هو غضبنا.
من منظورِ الكتابِ المُقدَّس، تنطوي سيادةِ الذات على أمرٍ شرِّيرٍ جدًّا. أخبرَ الربُّ النبي إرميا في إرميا 16: 10-12:
وَيَكُونُ حِينَ تُخْبِرُ هَذَا الشَّعْبَ بِكُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَكَ: لِمَاذَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَلَيْنَا بِكُلِّ هَذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ، فَمَا هُوَ ذَنْبُنَا وَمَا هِيَ خَطِيَّتُنَا الَّتِي أَخْطَأْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِنَا؟ فَتَقُولُ لَهُمْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ آبَاءَكُمْ قَدْ تَرَكُونِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَذَهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدُوهَا وَسَجَدُوا لَهَا، وَإِيَّايَ تَرَكُوا، وَشَرِيعَتِي لَمْ يَحْفَظُوهَا. وَأَنْتُمْ أَسَأْتُمْ فِي عَمَلِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكُمْ. وَهَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ وَرَاءَ عِنَادِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ حَتَّى لَا تَسْمَعُوا لِي.
يقول الله في جوهر كلامه: “لقد جعلتَ قلبَك الوثن!” لا بُدَّ أنَّ التحذيرَ الموجَّه إلى إسرائيلَ هنا يجعلَ أولئك الذين يخضعونَ لسلطةِ مشاعرِهم يرتعدون. هل تعرف ما هو أسوأُ في نظرِ الله من السجود أمامَ عجلٍ ذهبي، أو إيقاد البخورِ أمامَ صورة بوذا؟ إنّه عندما تتبعُ عِنادَ قلبِك وترفضُ الاستماعَ إلى كلمة الله. عندما تصبحُ أنتَ موضوعَ العبادة — تصبحُ الوثنَ المعبود.
كيفَ نتحدَّى تأليه الذات الذي يجتاح المُجتمعِ الحديث، ويتغلغل حتّى في قلوبِنا؟ لنبدأ بالنظر خارج أنفسنا إلى اللهِ الذي أخلى نفسَه. تُوجَد الإجابةُ عن مسألة سيادة الذات المنتشرة في عصرنا في رسالةِ بولسَ إلى أهلِ فيلبي:
فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ. (فيلبي 2: 5-8)
يُناقِض الإنجيلُ المسيحي عبادةَ الأوثان المعاصرة مُناقضةً تامَّة، لكنَّه أيضًا ترياقُها الوحيد. إنّه يرفعُ أعيُنَنا عن الذاتِ إلى المُخلِّصِ يسوع، الذي إذ بذَلَ حياتَه دفعَ ثمنَ عبادتنا للأوثان، وعلَّمنا أن نبذلَ حياتَنا بدلًا من أن نعبدَها (يوحنا 15: 13). تدعونا المسيحيَّة إلى النظرِ إلى خارجِ أنفسِنا لنجدَ اللهَ، وهذا في الواقعِ مصدرُ راحةٍ عظيم. عندما تُؤسَّس الأخلاقُ والمُعتقداتُ الدينيةُ على مشاعرِنا، فإنّها تصبحُ متزعزعة غيرَ ثابتة. إذ نجدُ أنفسَنا بحاجةٍ إلى الآخرين ليؤيِّدوا “الحقَّ” الذي نعلنه أو مشاعرَنا لكي يمنحونا ضمانًا وثقةً. على النقيضِ من ذلك، تمنحُنا المسيحيَّةُ تأييدَ اللهِ في يسوعَ حتى نكونَ أحرارًا لنخدم جيراننا بدلًا من مطالبتِهم بعبادتِنا أو تأييدناز
[1] عرَض تيموثي كَلِر (Timothy Keller) تلك الفكرة عرضًا مفيدًا في كتابه “الآلهة المُزيَّفة” (Counterfeit Gods).
[2] Carl Trueman, The Rise and Triumph of the Modern Self (Wheaton: Crossway, 2020), 87.