بقلم جوناثان لاندري كروز
“الهويَّة” كلمة شهيرة ورائجة في هذه الأيام. ويكاد يكون من المستحيل أن نتجنَّب الحديث عن الهويَّة الجنسيَّة، أو الهويَّة العرقيَّة في وسائل الإعلام الرئيسيَّة. وإن ما يُسمَّى “سياسات إثبات الهويَّة” أصبحت تسود على نحو متزايد سواء على القرارات في الحكومات، أو على المناقشات العائليَّة. وفي حين أن هذا موضوع شائع اليوم، لكنه ليس بأي حال من الأحوال بالموضوع الجديد من نوعه. فإن كتابًا قديمًا قِدَم الكتاب المُقدَّس تحدَّث فعليًّا، مرارًا وتكرارًا، عن المسائل التي تتعلَّق بهويَّة الإنسان. وفي حقيقة الأمر، الأمر الأول الذي قاله الكتاب المُقدَّس عن البشر هو إننا مخلوقون على صورة الله. هذا هو ما يُحدِّد مَن نحن، وهذه هي هويَّتنا الأساسيَّة، ونقطة الانطلاق لكلِّ الهويَّات الأخرى (مثل شريك حياة، أو والد، أو موظَّف، أو طالب، أو ابن، إلى آخره). ووجود الخطيَّة هو ما عَكَس ذلك الترتيب، جاعلًا من هويَّاتنا الوقتيَّة والاجتماعيَّة هي هويَّاتنا الأساسيَّة. فمحاولة آدم وحواء أن يرفعا من شأنهما ليكونا مساويين لله هو ما شكَّل أزمة الهويَّة الأولى، وهي الأزمة التي لا زلنا نشعر بتأثيراتها إلى اليوم.
الذات المُقدَّسة في العالم وفي الكنيسة
قال جاستيس أنتوني كينيدي (Justice Anthony Kennedy) ذات مرة هذا القول الشهير: “في لُبِّ الحريَّة يَكمُن حق المرء في تعريف مفهومه عن الوجود”.[1] وبهذه الكلمات، قام بتقنين تلك الفكرة التي يتبنَّاها الإنسان اليوم، والتي مفادها أن لا شيء أهم من الإجابة عن سؤال: “مَن أنا؟” فقد تعلَّمنا (بل ولُقِّننا) أن نرى أن الهدف من كلِّ شيء هو أن يخدم محاولتي لاكتشاف هويَّتي والعيش بموجبها.
ولهذا السبب، صارت المجتمعات حول أنحاء العالم، في السنوات الأخيرة، فردانيَّة على نحو متزايد. فإننا نعيش في عصر عقلية “السيلفي” و”كن نفسك”. كما نعيش في زمان ومكان صارت فيه كلمة “الهويَّة”، بالتصويت، هي كلمة العام.[2] فهويَّة الشخص، أو الشكل المُحدَّد لتعبيره عن نفسه، صار أمرًا مُقدَّسًا في بيئتنا الحالية. ويقول مجتمعنا إن لا شيء أهم من السماح للبشر بتعريف أنفسهم حسبما يرونه مناسبًا.
وليست هذه هي مشكلة العالم وحده، بل إن الكنيسة أيضًا ليست مُحصَّنة ضد الترويج لهذا النوع من الإيديولوجيَّات. فلِمَ قد نتحدَّث عن الخطيَّة بينما يشعر الناس براحة أكبر عندما يسمعون بأن الله يريدهم سعداء بأن يكونوا على طبيعتهم؟ فإن الإنجيل الكاذب، وهو إنجيل “الصحَّة، والغنى، والرخاء”، الذي كان موجودًا في الماضي منذ عدَّة عقود، قد أفسح المجال الآن لما يمكن أن نُسمِّيه “إنجيل الهويَّة” الكاذب. يُعلِّم هذا الإنجيل الكاذب بأن الله فقط يريدك أن تكون قانعًا بطبيعتك وبهويَّتك. فطالما أنت “صادقٌ مع نفسك”، فإنك صادقٌ مع الله. وطالما “تتبع قلبك”، فإنك تتبع الله.
كم من المذهل إذن أن نقارن هذا التيَّار السائد في القرن الحادي والعشرين، وبصفة خاصة كما نجده في كلمات جاستيس كينيدي، بافتتاحيَّة دليل أسئلة وأجوبة هايدلبرج، الذي صدر في عام 1563. يقول السؤال الأول من هذا الدليل: “ما هو عزاؤك الوحيد في الحياة والممات؟ تقول الإجابة: “أنني لستُ لذاتي“. أليس هذا مثيرًا للاهتمام؟ فهذا أبعد ما يكون عن العقليَّة السائدة اليوم. فما كان يُنظَر إليه في الماضي على أنه أمر مُحرِّر، صار يُنظَر إليه اليوم على أنه أخطر تهديد على الحريَّة! وإن أمكن إعادة كتابة هذا الدليل اليوم، فربما سيقول شيئًا من قبيل: “ما هو عزاؤك الوحيد في الحياة وفي الموت — أي ما الذي يُحفِّزك، ويلهمك، ويجعلك تمضي قدمًا في حياتك كلَّ يوم؟” وستكون الإجابة: “أنني لذاتي، وأنني أستطيع أن أكون ما يحلو لي أنا، ولا أحد يستطيع أن يمنعني”.
مشكلة السعي
الأمر المؤسف هو أن عددًا لا حصر له من الأشخاص اليوم يجدون هويَّتهم في الأمور الخاطئة. فهم يُقدِّمون إجابة خاطئة عن سؤال: “مَن أنا؟” فالهويَّة المَبنيَّة على العلاقات، أو الأداء الوظيفي، أو التعبير عن النفس، أو الظروف ستعجز دائمًا عن أن تعطينا الشبع الذي نسعى إليه. ربما أشعر براحة لفترة مُعيَّنة، لكن هذا الشعور لن يدوم أبدًا. فالسعادة التي تُقدِّمها هذه الهويَّات هي دائمًا سعادة عابرة ومتناقصة. لماذا؟
يقول تيموثي كيلر (Timothy Keller): “أن تتمتَّع بهويَّة هو أن يكون لديك شيء ثابت، ينطبق عليك في كلِّ ظرف وحال. دون ذلك، لن تكون لديك هوية”.[3] إذن، السعي وراء الهويَّة هو السعي وراء شيء ينطبق عليَّ في كل ظرف أو حال أكون فيه. لكننا كائنات ديناميكيَّة مُتغيِّرة، ورغباتنا تتغيَّر باستمرار. وإذا حاولنا تأسيس هويَّتنا على أيٍّ من تلك الأمور المُتغيِّرة التي ذكرناها أعلاه، سنجد أنفسنا باستمرار فاقدين لوجهتنا، وتائهين، وغير مشبَعين. فإنجيل الهويَّة يعجز عن منحنا ما يَعِدنا به.
تُعلِّم قصة في العهد الجديد هذه الفكرة المؤسفة، وهي مَثَل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31). الأمر المثير للاهتمام في هذا المثل هو أنه المَثَل الوحيد الذي ذكر فيه يسوع اسمًا لإحدى الشخصيَّات. وربما كان الغرض من ذلك هو التمييز بين هذين الرجلين في الحياة ما بعد الموت. فالرجل الأول، الذي اجتهد وكافح طوال حياته ليصنع لنفسه اسمًا، من خلال الثروات والشهرة، لم يجد ما يُعزِّيه بينما كان يتعذَّب في الجحيم، وظلَّ مجهول الهويَّة. فقد دُعي “الغني” فحسب. أما الشخص الثاني، فكان يتمتَّع فعليًّا بهويَّة، وكان له اسمٌ عرفه به حتى الله نفسه في السماء.[4]
يكشف لنا هذا المثل أننا هنا أمام مشكلة قديمة. فالبشر كانوا ولا يزالون ينفقون كل ما لديهم سعيًا وراء الشبع، ووراء صُنع اسم لأنفسهم. لكننا سننفق كلَّ ما لدينا، ولن نربح شيئًا. وسنظل نبحث طوال حياتنا عن هويَّة، فقط لينتهي بنا الحال مجهولي الهويَّة.
هويَّة المؤمن الحقيقيَّة
هذا هو التعبير المؤسف عن أزمة الهويَّة الأولى التي نشأت في الجنَّة منذ القديم. لكن ليس الخبر السيِّئ هو كل ما لدينا. فالله لا يتركنا مع تعريفاتنا الباطلة لأنفسنا، أو مع مفاهيمنا الخاطئة عن أنفسنا. بل في حقيقة الأمر، نرى في الكتاب المُقدَّس قصة إله ينزل إلى البشر في شخص يسوع المسيح، ليمنحهم هويَّة جديدة. وهي ليست فقط هويَّة جديدة، لكنها هويَّة أفضل، وأغنى، وأكثر إشباعًا من أيَّة هويَّة كان من الممكن أن نعطيها لأنفسنا.
وبحسب الكتاب المُقدَّس، كلُّ ما يلزمنا للحصول على هويَّة مُحرِّرة ومشبِعة موجودٌ في شخص يسوع المسيح. فبالنسبة للمؤمن، ليست الهويَّة شيئًا نربحه بالجهد، لكنها شيء يُمنَح لنا في يسوع. فهو يصير هويَّتنا. ويُجمِل الكتاب المُقدَّس هذا المفهوم العميق في كلمة واحدة بسيطة، وهي كلمة “فيه“. فكلُّ ما لنا وما نحن عليه كامنٌ في شخص يسوع المسيح. وعندما نؤمن بيسوع، يُوحِّدنا الروح القدس به، بحيث يصير كلُّ كماله واستحقاقه لنا بالحقيقة.
المصطلح التقني الذي يُعبِّر عن هذا المفهوم هو “الاتِّحاد بالمسيح”. وفي حين أننا لا نلتقي البتَّة بهذا التعبير في الكتاب المُقدَّس، لكننا نلتقي بكلمات من قبيل “فيه”، و”في المسيح”، و”في الرب”. كانت هذه هي التعبيرات المفضَّلة لدى بولس بصفة خاصة. وفي حقيقة الأمر، ما أن تبدأ في البحث عن هذه التعبيرات، سيصيبك الذهول من مدى تكرار كلمة “فيه” أو مشتقَّاتها في العهد الجديد. ولن تتمكَّن من أن تغفل عنها![5]
تأمَّل معي كيف يمكن لهذه الكلمة البسيطة، “فيه”، أن تُقدِّم إجابة وافية عن سؤال “من أنا؟”
- ربما تشعر بأنك غير محبوب أو ربما تعاني من الوحدة؛ ومن ثَمَّ، ستجيب عن السؤال المُتعلِّق بهويَّتك بأكثر الإجابات انهزاميَّة، قائلًا: “أنا نكرة”. لكن أن تكون في المسيح يعني أن تكون فردًا ضمن عائلة الله، بواسطة عمل التبنِّي، وكذلك أن تكون محبوبًا وعزيزًا لدى الله الآب على نحو تام وأبدي. “لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ ٱللهِ بِٱلْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ” (غلاطية 3: 26). وكما أن ابن الله يرضي الآب تمامًا، هكذا عندما نكون فيه، يُنظَر إلينا نحن أيضًا على أننا أولاد نرضي الآب تمامًا.
- ربما يغلبك وعيٌ وإحساس بخطيَّتك وذنبك. فالكثيرون مضطربون بسبب أفعالهم الخاطئة، لدرجة أنهم يستسلمون لحياة بائسة من الندم. لكن بالنسبة للمؤمن، لا تَكمُن هويَّاتنا في ماضينا المخزي، بل في الصفح الذي نلناه بالنعمة. “إِذًا لَا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ” (رومية 8: 1). فقد حلَّ على المسيح فوق الصليب ملء غضب الله حتى يتسنَّى لنا أن نختبر بركة غفرانه.
- على الوجه الآخر، كثيرون منَّا يحاولون تعريف أنفسهم بحسب إنجازاتهم التي حقَّقوها في الحياة. فإننا نعرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورة مثاليَّة عن أنفسنا، على أمل باطل أن يُصدِّق الناس الكذبة التي تقول إننا نمسك جيِّدًا بزمام حياتنا. وإن الحفاظ على هذا الوهم أمر منهك. لكن المؤمن هو شخص يمكنه الاسترخاء. فلسنا بحاجة إلى بلوغ الكمال، لأننا نلنا الكمال بالفعل بيسوع المسيح. فحياته الخالية من الخطيَّة، وبره، واستحقاقاته التي لا تشوبها شائبة، تُعطَى لنا، فيَقبَلنا الله بسببه. ولهذا نقرأ هذه الكلمات: “أَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللهِ فِيهِ” (2 كورنثوس 5: 21).
هذا بالكاد يُعبِّر عن قشور الغنى الذي تتَّسم به هويَّتنا في المسيح. لكن نرجو أن يفتح ذلك شهيتك كي تذوق وتنظر ما أطيب الرب للذين يريدون أن يجدوا فيه كلَّ ما لهم. افتح إذن كتابك المُقدَّس وابدأ في القراءة. ما الذي تتعلَّمه عن هويَّتك في المسيح؟ ما من إجابة يمكن أن تجيب على نحو وافٍ عن هذا السؤال، لأن الله “بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ” (أفسس 1: 3).
[1] Planned Parenthood of Southeastern Pa. v. Casey, 505 U. S. 833, 851 (1992), Cornell University Law School Legal Information Institute, https://www.law.cornell.edu/wex/quotation/[field_short_title-raw]_25.
[2] Katy Steinmetz, “This Is Dictionary.com’s 2015 Word of the Year,” Time, December 8, 2015, http://time.com/4139350/dictionary-2015-word-of-the-year/.
[3] Timothy Keller, Making Sense of God (New York: Penguin, 2016), 118.
[4] See Leon Morris, Luke (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1988), 276.
[5] هناك ما يزيد على 150 قولًا من هذا القبيل في العهد الجديد.