بقلم مايكل هورتن
في أحيانٍ كثيرةٍ، عندما يأتي أناسٌ إلى المسيح يُوعَدون “بالنُّصرَة في يسوع”، إذ يُخبِرهم أناسٌ مُبتسِمون وسعداء أنَّهم كانوا قبلًا حزانى، أمَّا الآن فحياتهم تفيض بالسعادة والبهجة، فالزيجات المكسورة أُصلِحَت، والأولاد الضالُّون رجعوا إلى الطريق المستقيم، والاكتئابُ قد ولّى إلى غير رجعة. ولكن ماذا يحصل عندما لاتحدث هذه الأمور، هل تضحى المسيحيَّة فاشلة؟
لم تنجح المسيحيَّة مع أيُّوب
كان أيُّوبُ رجلًا بارًا يتقي الله، محبًا لعائلته وحريصًا عليها، حتَّى إنَّه كُلَّما غادر أبناؤه بعدما انتهاء الوليمةُ التي كانوا يجتمعون عليها ويتمتَّعون بها في بيت ابيهم، كان أيوب يُصعِد ذبيحةً نيابةً عنهم. سخَر الشيطانُ من حياة أيُّوب التقية حين سأل الله”، هل مجانًا يتقي أيوب الله؟” فهو يعيش عيشة رغد إذ انه غنيٌّ ومسرور وصحة افراد عائلته جيِّدة ويسكنون في طُمَأنِينَة .فسمح اللهُ للشيطان أن يجرِّب أيُّوبَ.
وحدث في اليوم التالي أنَّ المصائبَ تتابعت على أيوب، فبين ليلةٍ وضُحاها خَسِر أيُّوبُ كُلَّ شيءٍ ثمين في حياته. فقال أيُّوب : “عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا”. رفض أيُّوب أن يتَّهِم اللهَ بالظُّلم. فجاء الشيطانُ إلى الله مرَّةً أخرى وقال: “.. ابْسِطِ الآنَ يَدَكَ وَمَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ”. عَلَتْ جسدَ أيُّوب قروحٌ وأُصِيب بألمٍ شديدٍ حتى قالت زوجته له: “اِلعَنْ اللهَ ومُتْ!” لكنَّ أيُّوب أجابها: “أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟”
جاء أصدقاءُ أيُّوب، ليعزوه في مصيبته، ويبدو انهم تعاملوا مع الموقف بشكلٍ جيِّد في بادِئ الأمر، إذ مكثوا جالسين معه على الأرض سبعة أيَّامٍ، لم يُكلِّمْه فيها أحدٌ منهم بكلمةٍ لأنَّهم رأوا أنَّه في كآبةٍ شديدةٍ. لم يكن أيوب بحاجة الى سَيل متدّفِق من العظات، بل كان بحاجة الى صداقة وعزاء. ولكن بعد انقضاء السبعة الأيَّام، ابتدأوا يُعبِّرون كلُّ واحدٍ عن رأيه بشأن ما كان يجري في حياة أيُّوب. فصاح أيُّوب بصوتَه، وصرخ صرخةَ يأسٍ، ولعن يوم ولادته. وخيَّمت على أيُّوب سحابة كآبة عميقة ومُظلِمة، فتمنَّى أنَّه لو لم يُولَد قَطُّ. بعدما انتهى هذا الرثاء بدأ رفاقه يبدون مشوراتهم التي كان اشبه بعظات وذلك من خلال طرح وجهة نظرهم الشخصية الخاصة بهم.
بعد أن أنهى أصدقاء أيوب “عِظاتِهم”، تكلَّم اللهُ أخيرًا وأخبر عن نفسه. “فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة وَقَالَ: «مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ»”.
سدَّ الله أفواهَ أيُّوب وأصدقائِه حَسني النيَّة بعدما عدَّدَ سلسلةً مُطوَّلة من أعماله الإلهيَّة التي تُظهِر حكمتَه وقدرتَه على خلق وتنظيم هذا الكون، فجميعهم افترضوا، من خلال تعليقاتهم، امتلاك القدرة على معرفة المقاصد الإلهيَّة. لقد جاءت تفسيراتهم جميعًا وكأنهم يستطيعون تمييز فِكر الله، كما نلجأ إلى فعل ذلك عندما تصيبنا المحن والألم أو يُصيب أحِبَّاءَنا!
بعد الدفاع الذي قدَّمه اللهُ، لم تُوجَد في فم أيُّوب حُجَّةٌ. وعلى الرَّغم من سُمُوِّ لاهوتِه الذي تبنَّاه، فقد أدَّت به خبرتُه إلى التشكيك في سيادة الله وصلاحه. ولأنَّه لم يستطِعْ فَهْم كيف يستقيم ذلك مع نظرته عن الله، فقد حَكَمَ بأنَّه لا تُوجَد إجابةٌ. لكنَّ اللهَ ذكَّره، كما يُذكِّرنا جميعًا، أنَّ عدم معرفتنا بالإجابات لا يعني أنَّه لا تُوجَد إجاباتٌ.
لا يمكنك أن تفهم الله فهمًا كاملًا
قُدَّام معاناةٍ كهذه يأتي الافتراض الطبيعي أنَّ اللهَ يُعاقِبنا بطريقةٍ ما بسبب خطايانا. لكنَّنا كمُستمعين لهذه المسرحيَّة، نعلم من البداية أنَّ لهذا الامتحان مصدرًا آخرَ. فنتوصَّل كأيُّوب إلى استنتاجات مبنيَّة على معلوماتٍ محدودة، في محاولةٍ منَّا لفهم سبب حدوث الأشياء لنا. ومع أنَّنا لا نملك حقَّ الوصول إلى خِزانة حفظ ملفَّات الله، أو إلى غرفة عمله الخاصة الداخليَّة، والإطلاع على مقاصده الحكيمة المخفية، ولا يُخبِرنا مباشرةً لماذا تقع المحنُ، فإنَّ ذلك لا يمنعنا من استخلاص الإستنتاجات على أيَّة حال.
وحالًا نندفع إلى تبرير القصد من وراء ذلك كلِّه. لكنَّ الله يرفض أن يكون “مُدركًا بالكامل” في هذه الأمور، فتكون مشورته مَخفِيَّة عن البشر. يسألهم الله جميعًا: “أَتَلْعَبُ معه[لوياثان] كَالْعُصْفُورِ، أَوْ تربطه لأَجْلِ فَتَيَاتِكَ؟ هُوَذَا الرَّجَاءُ به كَاذِبٌ. أَلاَ يُكَبُّ أَيْضًا [برؤيتي]؟ لَيْسَ مِنْ شُجَاعٍ يُوقِظُهُ، فَمَنْ يَقِفُ إِذًا بِوَجْهِي؟ مَنْ تَقَدَّمَنِي فَأُوفِيَهُ؟ مَا تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ هُوَ لِي”.
إنَّ أولئك المربوطين بصواري المعاناة العالية، غالبًا ما يُرهِبهم خوفٌ أعظم من الخوف من الموت. إنَّه الخوف من الحياة، الخوف من الصباح التالي والصباح الذي يليه.
في خضم الألم واليأس الشديد، تتعاظم التجربةُ إمَّا بالابتعاد عن الله لأنَّ المعاناةَ بطريقةٍ ما تُنسَب إلى غضبِه تجاه خطايا شخصيَّة، وإمَّا بالتوجُّه إليه لأنَّ المرءَ ان كان رجلاً أو امرأة يعرف أنَّه يحيا في سلامٍ مع الله. لهذا قال أيُّوب إنَّه لا يقدر أن يتَّجِه نحو الله في هذه الظروف إلَّا إذا كان بجانبه وسيطٌ أو شفيعٌ. وتدريجيًّا نرى ازدياد ثقةُ أيُّوب بهذا الوسيط: “أَيْضًا الآنَ هُوَذَا فِي السَّمَاوَاتِ شَهِيدِي، وَشَاهِدِي فِي الأَعَالِي. الْمُسْتَهْزِئُونَ بِي هُمْ أَصْحَابِي. ِللهِ تَقْطُرُ عَيْنِي لِكَيْ يُحَاكِمَ الإِنْسَانَ عِنْدَ اللهِ كَابْنِ آدَمَ لَدَى صَاحِبِهِ.”
إنْ بلَغنا من الضَّعف أشدَّه حتَّى إنَّنا لا نقوى على التمسُّك بالمسيح، فهو باقٍ بقوته ليُمسك بنا. فعلى الرَّغم من أنَّنا قد لا نقدر على مواجهة الغَد، فإنَّ المسيح قد اجتاز في الموت إلى الجانب الآخر وكسرَ شوكته من أجلنا. ومِثل أيُّوب الذي عَلِمَ أنَّ وَلِيَّه (فَادِيه) حيٌّ وأنَّه سوف يراه في الجسد نفسِه الذي تغطِّيه الآن قروحٌ دَامِية ومُؤلِمَة، أعلن الرسول بولس: “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ … إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ”.
لا تتوقَّف صحَّة المسيحيَّة على فعاليَّتها
في حالاتٍ كثيرةٍ، لا تُقدّم المسيحيَّة حلولاً لجميع مشاكل الحياة التي نظنُّ أنَّها ينبغي أن تحلَّها. إنَّ أولئك الذين صاروا مسيحيِّين لأنَّهم أُخبِروا أنَّ المسيحيَّةَ ستُصلِح مشاكل زواجَهم، ولكنهم وجدوا أنفسَهم في محكمة الطلاق، قد يعتقدون فيما بعد بعدم جدوى المسيحيَّة ويتركونها. وأولئك الذين توقَّعوا الحريَّة من العادات والرغبات الخاطئة بعد اهتدائهم الذي وُعِدوا فيه “بالنُّصرة المفاجِئة” قد يجدون أنفسهم شاعرين بخيبةِ أملٍ من جهة الله بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، عندما يدركون أنَّهم ما زالوا خطاةً مُخلَّصين بالنعمة.
لسنا مَدعُوِّين لنَدِين اللهَ. لم يعِد اللهُ أيًّا منَّا بالصحَّة والغِنَى والسعادة. إنَّما أخبرنا أنَّنا نحن الذين نتوقَّع أن نشارِك في مجد المسيح سوف نشارِك أيضًا في آلامه. إنَّ المسيحيةَ صحيحةٌ، لا لأنَّها تنجح في حياة الناس، لكن لأنَّ ابنَ اللهِ صُلِبَ من أجل خطايانا وأُقِيم لأجل تبريرنا منذ ما يقرب من ألفي عامٍ، خارج وسط مدينة أورشليم.
قد لا يُصلِح حدث صلب المسيح التأريخي زيجاتنا أو علاقاتنا أو حياتنا المضطربة كما نحب وحينما نرغب، لكنَّه بالتأكيد يُنقِذنا من غضب الله الآتي. وبالتأكيد أمام هذه الحقيقة، فإنَّ كلَّ شيءٍ آخر يتضاءل لكن لا يتلاشى تمامًا، بل تصبح أهميَّته ثانويَّة مقارنةً بتلك المسألة العظيمة. “وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ.”
تُقدِّم المسيحيَّة الرجاء حتَّى عندما لا تبدو ناجحة
البِرُّ الكامِل الذي يطالبنا به اللهُ لم يملكه سوى رجلٍ واحد عاش على الأرض، هو الفادي الذي بحث عنه أيُّوب وبولس وكلُّ قديسٍ آخر ليحتموا فيه من الموت والجحيم. في اللحظة التي فيها نثق بالمسيح وننكر اِدّعاءاتنا بالقداسة والقبول، وننزع أوراق التين التي صنعناها بأنفسنا، فإنَّ اللهَ يُلبِسنا رداءَ بِرِّ المسيح.
بفضل حياة الطاعة التي عاشها المسيحُ وذبيحة موته وقيامته المُنتصِرة، قَبِلنا الآبُ وجعلنا ورثته، وأُعطِينا الروح القدس ووُعِدنا بقيامة جسدنا الفاني. وهذا يضمَّن لنا الأمان أن نعود ننظر إلى الله.
كما قال أيُّوبَ إنَّه لا يقدر أن يرفع عينيه إلى الله في خضمِّ معاناته إلَّا إذا كان له شَفِيعٌ أو وسيطٌ، من ثَمَّ يمكننا جميعًا أن نذرف الدموعَ على كتف أبينا، إذ إنَّنا لا نخشى شيئًا. فغَضبُه لم يُرسِل بالألم والمعاناة على حياتنا إنْ كُنَّا ننتمي إليه، لأنَّه يُوقِف مكر الشيطان ومخطَّطاته حتَّى الخطيَّة والشر ويصنع من كل ذلك نعمة.
أمَّا بالنسبة لنا جميعًا هنا، نحن الخائفين من الموت أو الحياة، فإنَّ الخبرَ السارَّ هو أنَّ يسوع المسيح ما زال عن يمين الله، فهو الشفيع الذي يدافع عن قضيَّتنا، وإذا كان إيمانُك موضوعًا في صخر الدهور يسوع المسيح، في هذه القلعة الحصينة، فسيكون صديقك في هذا العالم وفي العالم الآتي.