كيف تكشف المعاناة عن حقيقة نفسك

كيف تكشف المعاناة عن حقيقة نفسك

بقلم پول ديڤيد تريپ

قضايا الثقة

دعوني أسرد عليكم ما يحدث في أوقات المعاناة. عندما ينهار الشيء  الذي تثق به (سواء بعلمك أو دون علمك)، فإنك لا تعاني من فقدانه فقط، بل تعاني أيضًا من فقدان الهوية والأمان اللذين كان يوفّرهما. قد لا يكون هذا منطقيًا بالنسبة لك وأنت تمرّ بموقف لم تخطّط لحدوثه، لكنَّ الضعف الذي أصبح جزءًا من حياتي العادية صار واسطة جبّارة من وسائط نعمة الله (انظر 2 كورنثوس 12: 9). فإنه قد حقّق لي أمرين: أولًا، أظهر لي صنم الذات الذيلم أكن أعلم بوجوده. فإنّ الافتخار بصحتي الجسدية وقدرتي على الإنجاز جعلني أنسب الفضل لنفسي في أشياء ما كنت لأنجزها بمفردي. لقد خلق الله جسدي وهو الذي يتحكّم فيه. وهو الذي وهبني المواهب التي أستخدمها كل يوم. لذلك لابُدّ أن تؤدّي الصحة الجسدية والقدرة على الإنجاز إلى شعور عميق بالامتنان والخشوع لله، لا إلى اعتماد الإنسان على الذات واعتزازه بإنجازاته. أنا أحمد الله على ما أظهره لي ضعفي وعلى تحرير النعمة لي من الاضطرار إلى إثبات قدرتي الذاتية.   

ولكنْ ثَمَّة أمر ثانٍ تمتّعت بفهمه. ذلك أننا قد نلعن الضعف الجسدي لأننا نرفض أن نضع ثقتنا في الله. دعوني أشرح. الضعف يبيّن ببساطة حالتنا الحقيقية التي نحن عليها: أي أنَّنا نعتمد كليًّا على الله أن يهبنا الحياة والنسمة التي نتنفّسها وكل شيء آخر. الضعف الجسدي لم يكن هو النهاية بالنسبة لي، بل كان بداية جديدة؛ لأن الضعف يوفّر الوضع الذي تظهر فيه القوة الحقيقية. يقول القديس بولس في 2 كورنثوس 12: 9 إنه يفتخر بضعفه. قد يبدو هذا الأمر غريبًا وجنونيًّا عندما نقرأه لأول مرَّة، لكنه ليس كذلك في الحقيقة. لقد علم أنَّ “قوة الله تَكمُل” في ضعفه. كما ترون، الضعف ليس هو الأمر الذي يجب أن نخشاه. بل ما يجب أن نخشاه هو «وَهم القوة» المُستحوِذ علينا. يميل الأقوياء إلى رفض المساعدة، لأنَّهم يظنّون أنهم لا يحتاجون إليها. ولكن عندما يتّضح لك ضعفك، فإنك تعتمد على موارد القوة الإلهية التي لا تنضب والتي هي لك في المسيح. بسبب ضعفي، عرفت قوة لم يسبق لي معرفتها من قبل.

شعورنا بأننا أصحاب حقّ

كانت التوقّعات غير الواقعيّة من ضمن الأشياء التي شكّلت الطريقة التي عانيت بها جسديًا. فلا ينبغي للمعاناة أن تفاجئنا، ومع ذلك فإنها دائمًا تفاجئنا، وقد فاجأتني أنا شخصيًّا. لكن عندما أصابني المرض، كنت متسلّحًا بالمفاهيم اللاهوتية السليمة. ذلك أنني كنت مؤمنًا بأنَّنا نعيش في عالم يئن ويصرخ من أجل الخلاص. لكنَّني كنت أحارب شيئًا آخر بداخلي، إذ كنت أتوقّع أنني سأظل دائمًا على حالي، أي أنني سأكون دائمًا قويًا وصحيح البدن. كان هناك مجال ضئيل للضعف في حياتي وأسرتي وخططي للخدمة، أو للمتاعب من الخارج. في الواقع، لم أتوقّع أي اضطراب على الإطلاق. فطريقة تفكيري في نفسي وطريقة رسم خططي كانت مبنيّة على توقّع غير واقعي بأنني سأظل سالمًا من الاضطرابات المتكرّرة في حياة الإنسان وخططه التي تحدث في عالم لا يعمل بالشكل الذي صمَّمه الله.

لم أكن مُستَهدَفًا. والله لم ينسَني أو يُدِر ظهره لي. إنني لم أكن أُعاقَب على اختياراتي، ولم أكن أتحمّل عواقب قراراتي السيئة. بل ما حدث معي لا يختلف عن الأشياء العادية التي تجري لنا جميعًا لأننا نعيش في عالم دمّرته الخطيئة إلى حد كبير. المرض والسقم يسكنان هذا العالم، لذا تمرض أجسادنا أو لا تعمل بصورة صحيحة. في هذا العالم، يهاجمنا الألم، وقد يكون مُزمِنًا تارة وحادًّا تارة أخرى، فيجعل الحياة لا تُطاق. نحن نعيش في عالم مُحطَّم حيث يموت الناس، ويفسد الطعام، وتندلع الحروب، وتسيطر حكومات فاسدة، ويستولي الناس على ما ليس لهم ويمارسون العنف بعضهم تجاه البعض، ويتصرّف الأزواج بكراهية بعضهم تجاه البعض، ويتعرَّض الأطفال للاعتداء بدلًا من الحماية، ويموت الناس ببطء من الجوع أو يموتون فجأة من المرض، حيث يزداد الاضطراب والبلبلة الجنسية، وتؤدّي المخدرات إلى الإدمان والدمار، ويدمّر القيل والقال السمعة، وتسيطر الشهوة والجشع على القلوب، وتنمو المرارة مثل السرطان، والقائمة طويلة لا تنتهي.

سوف نتعرّض للصعوبات

الكتاب المُقدَّس لا يتساهل معنا، بل يُعلّمنا ويحذّرنا – عند كل منعطف – من طبيعة العالم الذي نحيا فيه جميعًا. سواء استخدم الكتاب المُقدَّس سردًا دراميًا من واقع الحياة، أو عقيدة تعليمية، أو مبدأ حكيم لتعليمنا طريقة العيش بصورة جيدة، فإنه يعمل على إعدادنا، ليس لكي نحيا في خوف، بل لنكون مستعدين للأمور التي سوف نواجهها أجمعين. إنَّ الله يهبنا كل ما نحتاج إليه كي نعيش بتوقّعات واقعية، وكي لا تصدمنا أزمنة الضيق والصعاب فتصيبنا بالخوف والذعر، بل نختبرها بإيمان وهدوء واختيارات واثقة.

على الرغم من أني كنت متسلّحًا بالمبادئ اللاهوتية السليمة، إِلاَّ أنَّ توقّعاتي – في حياتي اليومية – كانت غير واقعية، والتوقّعات غير الواقعية تجعل المعاناة دائمًا أشدّ صعوبة. أقصد أنني مثال حي على أنَّنا – أنت وأنا – لا نعاني فقط من الشيء الذي يؤلمنا، بل نعاني أيضًا بسبب الطريقة التي نستقبل بها الألم. فكل واحد منا يجلب إلى معاناته أمورًا تشكِّل الطريقة التي يعاني بها. كلنا نعاني، لكننا لا نعاني بنفس الطريقة، لأنّ معاناتنا تتأثّر بتوقّعاتنا التي ندخل بها في الصعوبات التي تصادفنا.

ما الذي يشكّل معاناتك؟

دعوني أطرح عليكم أمرًا مهمًّا جدًا لابُدّ من فهمه: معاناتك تتشكّل بواسطة ما يدور في قلبك أكثر بكثير مِمَّا يدور في جسمك أو في العالم المحيط بك. ولكن أرجوكم ألاَّ تسيئوا فهم ما أقوله. فإنّ معاناتي كانت واقعية، والخلل الوظيفي في جسدي كان حقيقيًا، والتلف الذي لحق بكُليتي كان حقيقيًّا، والألم الذي تجرّعته كان مؤلمًا بشكل مريع، والضعف الذي أصبح يسيطر على حياتي واقع لا رَيب فيه. لكنَّ الطريقة التي تعايشت بها مع كل تلك الحقائق القاسية تشكّلت بواسطة الأفكار والرغبات والأحلام والتوقّعات والطموحات والمخاوف والافتراضات التي كانت في قلبي. والأمر ينطبق عليك أنت أيضًا. إنَّ ردود أفعالك للمواقف التي تقع في حياتك، سواء في مجال المال أو العلاقات أو ظروفك المحيطة، تتحدَّد دائمًا بما يجري داخلك (في قلبك) أكثر من الصعوبات التي تواجهها. لذلك فإنّ استجابات الناس تتباين جدًّا في نفس المواقف الصعبة. لهذا يقول كاتب الأمثال:

“فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ ٱحْفَظْ قَلْبَكَ، لِأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ ٱلْحَيَاةِ”.[1] (أمثال 4: 23)
 

تتدفّق من قلبك مواقفك الذهنية واختياراتك وردود أفعالك وقراراتك واستجاباتك لما تواجهه مثلما تتدفّق الينابيع. القلب هو مركز شخصيتك. القلب هو معدنك الحقيقي، مَثَله مَثَل التربة الجافة التي ترتوي بمياه مجرى الماء. والألم إنما يُبرِز الأفكار والمواقف والافتراضات والرغبات الحقيقية لقلبك.

صحيح أنَّنا لا ندخل فارغين أبدًا في أي تجربة. ذلك أننا دائمًا ندخل إلى المعاناة التي تواجهنا مصطحبين معنا شيء ما. وماذا عنك؟ ما تصطحبه معك من شأنه أن يُثقِل كاهلك وأنت تخوض المتاعب. ما الذي يؤثّر عليك فيجعلك تنسى أنَّه – بغض النظر عن الألم الذي تتجرّعه – من المستحيل أن تتحمّل هذا كله بنفسك مع أنّك ابن لله؟ إنَّ الذي خلق هذا العالم ويحكمه بالحكمة والعدل والمحبة هو فيك ومعك وفي صفّك، ولا شيء يستطيع أن يفصلك عن محبّته.

هذا المقال مقتبس Suffering: Gospel Hope When Life Doesn’t Make Sense بقلم پول ديڤيد تريپ. تم نشر هذا المحتوى هنا في الأصل، ومصرح لنا باستخدامها بإذن من Crossway.


[1]  أي: صُن قلبك بكل يقظة لأنّ منه تتدفّق ينابيع الحياة (المترجم).

  • پول ديڤيد تريپ

    راعي كنيسة، ومؤلف، ومتحدث في مؤتمرات دولية. وهو أيضًا رئيس خدمات پول تريپ. وأستاذ في معهد ويستمنسترالعالي للاهوت في أمريكا. كتب العديد من الكتب المشهورة عن الحياة المسيحية ، بما في ذلك ماذا تتوقع؟، والنداء الخطير، أبوة وأمومة ، والجنس في عالم مكسور، ورحمة الصباح الجديدة. لمزيد من المعلومات والموارد ، بإمكانك زيارة paultrippministries.org.

    Read All by پول ديڤيد تريپ ›

ابحث في مكتبة الموارد