كيف أستطيع أن أحب شخصًا تسبب في أذيّتي؟

بقلم مايكل هورتن

يقول يسوع [في] عظته على الجبل: “لقد سمعتم أنَّه قيل في العهد القديم: طهِّروا الأرض من كل ما يلوّثها. احملوا السيف، واطردوا كل أعدائي وأعدائكم” لأن إسرائيل كانت شعبًا. كانت الكنيسة في العهد القديم شعبًا أيضًا، ولكنّ الكنيسة الآن لا ترتبط هويّتها بأي شعب على وجه البسيطة. إنَّها مملكة روحية تتكوّن من أناس من كل عرق وقبيلة وعشيرة ولسان وشعب (رؤيا 5: 9).

يقول يسوع إنك سوف تتعرض للاضطهاد. وهو هنا لا يتحدّث عن الدفاع عن زوجتك وأسرتك إذا ما اقتحم شخصًا منزلك. يمكنك أن تكون جنديًا مثل كرنيليوس الذي صار مؤمنًا مسيحيًا، حيث لم يأمره بطرس أبدًا بمغادرة الجيش الروماني. لكن لا يمكنك الدفاع عن الإنجيل بحمل السلاح؛ إنما عليك أن تتحمّل الاضطهاد. فكيف نحب أعداءنا؟ أو دعونا نطرح السؤال بشكل أعمّ: كيف نحب الأشخاص الذين لا يُحسِنون معاملتنا؟ 

من السهل جدًا لنا تبرير الامتناع عن محبة المسيئين إلينا. فهناك شيء ما في أعماقنا، عندما يخطئ أحدهم في حقّنا، يُشعِرنا بالحق في الهجوم عليهم أو تجاهلهم ومقاطعتهم. فهم يستحقون ردة فعلنا على مافعلوا تجاهنا. وكثيرًا ما يحدث ذلك في الكنيسة ايضًا، ولا يؤاخذنا أحد على ذلك. رُبَّما تقول: “معقول؟” نعم، هذا الشخص قد جرحني وتسبب في أذيتي. هذا ما فعله بي!

في الأصحاح الخامس من الإنجيل بحسب متى، نقرأ هذه الكلمات اللافتة جدًّا للنظر، التي نطق بها ربنا وسيدنا الكريم: “سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ.” هذه بالتأكيد كلمات رائعة قد بلغت عظمتها أبعادًا كونية. وقد جادل العديدون من الأشخاص على مرّ القرون بأنّ هذا أمر صعب للغاية.

والآن دعوني أعجّل بالقول إنَّ يسوعَ كان جادًّا جدًا حين أوصى بهذه الوصية ولم يكن الفكاهة من وراء كلامه. فكيف تتعامل مع أعدائك او الذين لايبدون مشاعر ود تجاهك؟ فلكي تحب مبغضيك عليك بتحليل نفسك كأول خطوة . فبعض الناس لن يروق لهم طريقة مشيك او طريقة حديثك. وبعض الناس لن يروق لهم قدرتك على القيام بعملك بشكل أفضل منهم. وهناك من لا يروق لهم كون بشرتك أفتح او اكثر إسمرارًا من بشرتهم.

ولكن هناك حقيقة اخرى يجب أن نواجهها وهي أنَّ الآخر قد يكرهنا بسبب عمل ان تصرّف قمنا به، وهذا ما أثار الكراهية داخله. لهذا السبب يجب ان نبدأ بأنفسنا. رُبَّما كان هناك شيء بداخلك يثير كراهية عنيفة لدى الشخص الآخر. وهذا ما عناه يسوع بقوله: كيف تقدر أن ترى القذى في عين أخيك ولا ترى الخشبة في عينك؟ وعندما تبلغ المرحلة التي تنظر فيها في وجه كل إنسان وترى وتدرك وجود صورة الله في اعماقه وتبدأ تحبّه مهما كان الأمر – بغض النظر عمّا يفعله. وذلك لإدراك وجود صورة الله فيه، ذلك العنصر الخَيِّر الذي لا يمكننا التخلص منه و نكرانه، عندها تكون المُحصِّلة النهائية هي المحبة. فالمحبة ليست ذلك الشعور العاطفي الذي نتشدَّق به وهي ليست مُجرَّد شعور عاطفي. المحبة هي نية حسنة، خلاّقة، تتعاطف مع جميع البشر. إنَّها رفض كره أي شخص. عندما نرتقي إلى مستوى المحبة بجمالها وقوتها الهائلة، فإننا لن نسعى إِلاَّ إلى هزيمة الأنظمة الشريرة التي وقع الأفراد في براثنها، بكلمات أخرى. سنحب كل إنسان خلق على صورة الله الخيّرة بينما نسعى إلى هزيمة الشر الذي يحيطهم.

ينتقل الدكتور كينغ بعد ذلك إلى تمييز المصطلحات المختلفة للمحبة الواردة في العهد الجديد اليوناني، اذ يقول عن محبة «الأغابي»:

إنَّها محبة لا تطلب شيئًا في المقابل. إنَّها محبة فيّاضة. إنَّها المحبة التي يدعوها اللاهوتيون «محبة الله» العاملة في حياة البشر. تبدأ بمحبة البشر، ليس لأنَّهم يستحقّون المحبة، ولكن لأنّ الله يحبّهم.

تنظر إلى الجميع وتحبهم لأنك تعلم أنَّ الله يحبهم. وقد يكون ضمنهم أسوأ شخص رأيته في حياتك. أعتقد أنَّ هذا ما قصده يسوع في هذا المقطع البالغ الأهمية عندما قال: أحبّوا أعداءكم.

لا يأمرنا [يسوع] أن “نُعجَب” بأعدائنا. فالإعجاب شعور عاطفي. هناك أشخاص كثيرون يصعب عليّ الإعجاب بهم. لكنَّ يسوع يقول: “أحبّوهم”. يسوع يعلّمنا أنَّ الكراهية لا تؤدّي إِلاَّ إلى زيادة الكراهية. فإذا ضربتك ثُمَّ ضربتني، وهكذا دوالَيك، سيستمر الأمر إلى ما لا نهاية … وهناك سبب آخر يجعلك تحب أعداءك، وهو أنَّ الكراهية تشوّه شخصية الكاره. بالنسبة للكاره، يتحوّل الخير إلى شر والشر إلى خير. الكراهية تبتلع الكاره. إنها تفتك به مثل المرض. ولكن قبل وقت طويل من ظهور علم النفس الحديث، دعانا يسوع إلى المحبة: “إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ ٱلْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ.” يأمرنا يسوع بالمحبة، لأن الكراهية تدمّر الكاره كما تدمّر المكروه.

في أحد الأيام تقدّم نابليون وقال إنَّه قد نجح في غزو العالم تقريبًا في سن مبكرة جدًا. ثم أضاف: “لقد شيّدت  أنا والإسكندر وقيصر وشارلمان إمبراطوريات عظيمة، لكن علمَ اعتمدت؟ لقد اعتمدت على القوة. لكن منذ زمن بعيد، أسّس يسوع إمبراطورية تعتمد على المحبة، وحتى يومنا هذا، الملايين مستعدّون للموت من أجله.” ها أنا أرى يسوع يطوف بتلال فلسطين ووديانها، أراه ينظر إلى الإمبراطورية الرومانية بكل آلياتها العسكرية الرائعة والمعقدة، لكن في خِضَمّ ذلك كله، أسمعه يقول: “أنا لن أستخدم هذه الطريقة، ولن أكره الإمبراطورية الرومانية.” في جميع أنحاء العالم نسمع صدى سعيدًا في الكنائس يعلو في السماء: “يسوع سيملك حيث تشرق الشمس وتستطيع ليمتدّ ملكوته على كل الخلجان والشواطئ.” ونسمع جَوقة أخرى ترنّم: “كل المجد لقوة اسم يسوع.” وأخرى ترنِّم: “هللويا، هللويا. إنَّه ملك الملوك ورب الأرباب. هللويا، هللويا.”

هناك خشبة مغروسة على تل الجلجثة الصغير، وعلى تلك الخشبة عُلِّقَ أجمل وأبهى شخص، بل وأكثر شخص تأثيرًا، جاء إلى العالم. لكن تلك الخشبة لم تكن مسرحية بلا معنى جرت أحداثها على مسرح التاريخ. كلا، إنَّها المنظار الذي نتطلّع من خلاله إلى آفاق الأبدية الواسعة فنرى محبة الله تُشرِق على ساحة الزمان. إنَّها تذكار أبدي لجيل سلبت السلطة عقله بأنّ المحبة هي السبيل الوحيد. عندما نتسلح بمحبة المسيح الذي أحبنا نستطيع ان القول بأننا نحب الآخر ونفضِّل الموت على كراهيته. بواسطة قوة محبة يسوع المسيح هذه، يتغيّر أشدّ الناس عصيانًا في أرجاء العالم. عندها تتملّكنا من الأعالي القدرةُ على محبة أعدائنا، ومباركة أولئك الذين يلعنوننا، نستطيع ان نُحسِن لأولئك الذين يكرهوننا، ونصلّي من أجل من يسيئون إلينا.

مُقتبَس بتصرُّف من رد ورد في الحلقة 118 من برنامج جوهر المسيحية الإذاعي.

  • مايكل هورتن
    الدكتور مايكل هورتن هو أستاذ علوم اللاهوت النظامي والدفاعيات في معهد اللاهوت العالي ويستمنستر – كاليفورنيا. له مئات المقالات في مواضيع لاهوتية مختلفة وعشرات الكتب اللاهوتية من ضمنها كتابه المشهور جوهر المسيحية. يشغل د. هورتن ايضاً رئاسة تحرير مجلة Modern Reformation، وهو رئيس ومضيف للبرنامج الإذاعي المعروف The White Horse Inn
    Read All by مايكل هورتن ›

ابحث في مكتبة الموارد