
بقلم دين لاندري
غالبيَّة الناس على دراية جيِّدة بحدث إنكار بطرس ليسوع ثلاث مرات. وربما نتذكَّر أن الشيطان كان مُتورِّطًا في سقوطه هذا. فقبل سقوط بطرس، وتخلِّي بقيَّة التلاميذ عن يسوع، قال يسوع هذه الكلمات: “سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لَا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ” (لوقا 22: 31-32). ولطالما أكَّد المؤمنون أنه إلى جانب العالم والجسد، عادة ما يكون الشيطان (وأتباعه) متورِّطين في غواية البشر بفعل الشر. لكن كيف يُجرِّبنا الشيطان تحديدًا؟
من المؤكَّد أن الشيطان قد مارس، تحت سيادة الله، ضغوطًا خارجيَّة على بطرس عن طريق تحريض بعض الأشخاص في محيط محاكمة يسوع على اتِّهامه بأنه من الملازمين ليسوع (لوقا 22: 56-60). علاوة على ذلك، يمكن لاستخدام الشيطان للضغوط الخارجيَّة، تحت سيادة الله أيضًا (أيوب 1: 12)، أن يكون خطيرًا. على سبيل المثال، قام الشيطان بقتل أولاد أيوب العشرة عن طريق إثارة “رِيحٌ شَدِيدَةٌ” (أيوب 1: 19). كما تسبَّب في إصابة أيوب بالمرض، كي يغويه بأن يلعن الله (أيوب 2: 7). فمن المؤكَّد، إذن، أن الشيطان يستطيع أن يُجرِّب البشر من خلال ضغوط خارجيَّة. لكن، هل يسعى الشيطان أيضًا، في بعض الأحيان، وتحت سيادة الله أيضًا، إلى التأثير في البشر وغوايتهم عن طريق الإيحاء لنفوسهم؟
على سبيل المثال، كيف استطاع أولئك الذين اتَّهموا بطرس أن يفعلوا ذلك؟ لم يكن الأمر مُجرَّد مصادفة. فقد ذكر يسوع بوضوح أن الشيطان يقف وراء ذلك (لوقا 22: 31-32). إذن، هل حرَّكهم الشيطان باستخدام ضغوط خارجيَّة؟ أم من الممكن أن يكون الشيطان فقط قد أوحى إليهم بهذا، محتكمًا إلى دوافعهم الأنانيَّة؟ ومجدَّدًا، هل من الممكن في بعض الأحيان أن يُجرِّب الشيطان البشر، ويؤثِّر فيهم، عن طريق الإيحاء لأذهانهم بأفكار بصورة مباشرة؟ رأى اللاهوتيُّون القدامى أن هذا أمرٌ ممكنٌ. لكن، يرى الكثيرون من أناس العصر الحديث، أن هذا شبيهٌ بالهراء والخرافات، مفترضين أن كل أفكارنا إنما هي فقط أفكارنا نحن. لكن ضع في اعتبارك ما يلي.
بعض النصوص الكتابيَّة وثيقة الصلة
نقرأ في 1 أخبار الأيام 21 أن داود أمر بإجراء إحصاء للشعب. ويقول الكتاب المُقدَّس إن الشيطان “أغواه” ليفعل ذلك، على ما يبدو بهدف إسقاط داود في خطيَّة الكبرياء (1 أخبار الأيام 21: 1). لكن من المثير للاهتمام، ومن الواضح أيضًا، أن الشيطان في هذه الحالة لم يستخدم الضغوط البشريَّة الخارجيَّة في تحريض داود، بل في حقيقة الأمر، وبحسب سياق النص، الضغط الخارجي الوحيد الذي تم ممارسته على داود كان من قِبَل يوآب، الذي حثَّ داود بقوة على عدم إجراء هذا الإحصاء (1 أخبار الأيام 21: 3-7).
على غرار ذلك، في أعمال الرسل 5، سأل بطرس حنانيا قائلًا: “يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلَأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ…؟” (أعمال الرسل 5: 3). ويُبيِّن سياق النص أن حنانيا (وزوجته) تعمَّدا الكذب، حتى يَظهَرا للآخرين سَخِيَّيْن. لكن مرة أخرى، كان الشيطان هو المُحفِّز على هذا. ومرة أخرى، لم يكن الضغط البشري الخارجي هو ما استخدمه الشيطان لدفع حنانيا إلى فعل ذلك، وهو الأمر الذي أوضحه بطرس جيِّدًا (راجع أعمال الرسل 5: 4). فعلى العكس، لم تكن الكنيسة هي التي حثَّت حنانيا على الكذب، بل الشيطان. قال داريل بوك (Darrel Bock) عن ذلك إن حنانيا كان يستحق اللوم لأنه “… تصرَّف بحسب ما كان في قلبه”؛ لكنه كان “تحت تأثير الشيطان … [و] ترك نفسه عُرضة لاتباع الشيطان” (Acts, 222). وبالتالي، يبدو أن طريقة عمل الشيطان مع كلٍّ من حنانيا وداود كانت في هيئة حثٍّ داخلي على فعل الشر.
آراء بعض اللاهوتيِّين القدامى
مرة أخرى، بالنسبة للذين يعيشون في العصر الحديث، ما بعد عصر التنوير، تبدو فكرة إيحاء الشيطان للبشر بالأفكار في بعض الأحيان فكرة تنتمي إلى آباء البريَّة القدامى، أو إلى المتديِّنين المتطرِّفين وغير المفكِّرين. لكن على الرغم من ذلك، تبنَّى عدد كبير من أسلافنا المصلحين الرأي القائل بأن تلك هي الممارسة الشائعة للشيطان. لنتناول فيما يلي بعض الأمثلة:
قال فيلهلموس آ. براكل (Wilhelmus à Brakel) عن هجمات الشيطان على الأتقياء ما يلي: “هو يعمل في بعض الأحيان عن طريق التحدُّث المباشر إلى النفس، الأمر الذي يَظهَر بأشد وضوح عندما يعرض على النفس أمورًا أو حُججًا غير ماديَّة” (The Christian’s Reasonable Service، 1: 301). ولاحقًا، خصَّص آ. براكل خمس عشرة صفحة لشرح اعتداءات وهجمات الشيطان على المؤمنين (المرجع نفسه، 4: 235-50). وعبر هذه الصفحات، أكَّد آ. براكل على أن إحدى الوسائل الرئيسيَّة التي يهاجم بها إبليس هي الإيحاء للمؤمنين بأفكار بشكل مباشر. كما أضاف نصيحة عن كيفيَّة تمييز المرء بين أفكاره الشخصيَّة ومداخلات الشيطان (4: 244). وفي كلِّ ذلك، أكَّد آ. براكل بأن إبليس يعمل مُتسترًا، وبأنه “يبذل أقصى جهد وحيلة لديه للإيحاء لنا بأنه ليس هو مَن يقحم مثل هذه الأفكار، بل هي نابعة من قلب الشخص نفسه الذي يتعرَّض للهجوم” (4: 244).
ثانيًا، قام توماس جودوين (Thomas Goodwin)، وهو عضو في مجمع وستمنستر، بالتمييز بين الأفكار النابعة منَّا في الأصل، ومن داخل قلوبنا، وبين تلك الأفكار الآتية إلينا من الآخرين، مثل “… أفكار تجديف يلقي بها الشيطان إلينا، بحيث تكون النفس سلبيَّة تمامًا … ولا تكون هي نتاج أفكارنا، بل نتاج أفكاره هو…” (The Vanity of Thoughts، 6؛ راجع أيضًا آ. براكل، 4: 243). وأوضح جودوين ذلك من خلال تشبيهه للأمر بوجودنا داخل غرفة، حيث نسمع رجلًا يسبُّ. يدخل هذا السباب إلى عقولنا، لكنه لا يُنجِّسنا بصفة شخصيَّة، مثلما حين يكون من نتاج أفكارنا. لكن حذَّر جودوين قائلًا: “… عندما يرقد القلب فوق تلك البيضات، عندئذ تصير تلك هي أفكارنا، مع أنها آتية إلينا من الخارج [أي مع أنها ليست نابعة منَّا]” (المرجع نفسه، 6). ويجدر بنا هنا ملاحظة المسؤوليَّة الواقعة على المؤمن المُجرَّب. قال كاتب آخر عن الشيطان، في غوايته للمؤمنين، هذه الكلمات: “لديه خفَّة يد مُقنِعة، وليس قوة جبريَّة. فربما يُجرِّبنا، لكنه لا يستطيع أن يهزمنا بدوننا…” (Brooks, Precious Remedies Against Satan’s Devices، 235).
علاوة على ذلك، في السيرة الذاتية التي كتبها جون بنيان (John Bunyan)، بعنوان “نعمة وافرة لأول الخطاة” (Grace Abounding to the Chief of Sinners)، ذكر العديد من المواقف التي جرَّبه الشيطان فيها عن طريق إقحام إيحاء، أو كلمة، أو حُجَّة داخل عقله. وقال بنيان عن الشيطان: “وهو، في بعض الأحيان أيضًا، قد يقحم [داخل عقل بنيان] أفكارًا شرِّيرة جدًّا كهذه…” (The Works of John Bunyan، 1: 19). وفي جزء آخر، قال بنيان: “وفي بعض الأحيان، كنتُ أحاول معارضة هذه الإيحاءات [أي إيحاءات الشيطان]” (المرجع نفسه، 17). وقد وقع الاعتداء الشيطاني الأقوى على ذهن بنيان عندما ألحَّت عليه كلمة واحدة بصورة مُتكرِّرة، قائلة: “بِعه”، أي بأن يبيع المسيح (راجع المرجع نفسه، 23، الثانية 139). وفي كلِّ ذلك، لم ينسب بنيان الإيحاءات التي قُدِّمت إليه إلى أشخاص آخرين، ولا إلى صوته الداخلي، بل إلى الإيحاءات الشخصيَّة التي وضعها المُجرِّب داخل عقله.
وأخيرًا، في الكتاب بعنوان “علاجات ثمينة ضد مكائد إبليس” (Precious Remedies Against Satan’s Devices)، حذَّر توماس بروكس (Thomas Brooks) من الأساليب الكثيرة التي يسعى بها العدو إلى أن يُجرِّب المؤمنين. وفي حديثه، وصف بروكس إبليس باستمرار بأنه “يقول”، أو “يعرض على النفس” العديد من الأفكار المنحرفة، حتى يغوي المؤمنين بارتكاب الخطيَّة.
من المؤكَّد أن بروكس لم يستبعد بهذا إمكانيَّة استخدام الشيطان، في محاولته لإسقاط المؤمنين في شَرَكه، لوسائل ثانويَّة (مثل الضغوط الخارجيَّة، أو النصائح البشريَّة الخاطئة). لكن، في ضوء شهادة زملائه (أعلاه)، من المستبعَد أن يكون بروكس قد قصد بأن تُفهَم كل إشاراته إلى تكلُّم الشيطان إلى النفس بالمعنى المجازي.
تطبيق بسيط
إذا كان هذا صحيحًا، فإن شعب الله إذن ليسوا معفيِّين من الإيحاءات الشيطانيَّة! وفي عالمٍ يثق الغالبية فيه بأنفسهم ثقة مطلقة، ثمَّة أهميَّة أن نعرف أن مثل هذه الثقة بالنفس ليست فقط عديمة الحكمة، بسبب كوننا عُرضة للخطيَّة (أمثال 12: 15)، لكنها أيضًا ثقة خطيرة. فهناك مُجرِّب حقيقيٌّ؛ وليست كل فكرة تطرأ على أذهاننا يمكن أن تكون نابعة من داخلنا؛ لكنها قد تكون، في بعض الأحيان، تجارب من الشيطان. وبهذه الأفكار، يمكن للشيطان أن يحاول إحباطنا، موحيًا إلينا بالتركيز على ظروفنا، بدلًا من أن نتَّكل على الله. فربما يرغب الشيطان في غواية شعب الله لإسقاطهم من حالة القداسة إلى الشهوة، ومن حالة الخضوع إلى التمرُّد، ومن الاتِّضاع إلى التعجرف. السبب في ذلك هو أننا إن واصلنا التفكير في شرك الفكرة التي أوحى بها الشيطان إلينا، وراعيناها في قلوبنا (مثلما فعل داود وحنانيا)، سرعان ما سننحدر بسرعة الضوء إلى السلوك الخاطئ. والأسوأ من ذلك أننا قد نتعلَّم تقديم تبريرات لكوننا نكنُّ مرارة داخل قلوبنا، أو تبريرات لزرع الخصام، أو للتذمُّر المستمر، أو للحسد، أو للبغضة؛ مع أن كلمة الله تنهى عن هذه الأمور جميعها (أفسس 4: 26-32)!
إذا كان هذا واحدًا من عناصر الطريقة التي تعمل بها غواية الشيطان، فلا عجب إذن أن دعا بطرس المؤمنين إلى أن يسهروا، لأن “إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ” (1 بطرس 5: 8). ولا عجب أن يكون من الحيوي للغاية أن نفحص أفكارنا، وأمانينا، ورغباتنا، وخططنا، وتوجُّهاتنا، وأفعالنا في ضوء كلمة الله (تثنية 8: 2-3؛ مزمور 19: 11؛ متى 4: 4؛ 2 تيموثاوس 3: 16-17).
دين لاندري هو الراعي الأساسي لوادي طائفة الإيمان الهندي (Indian Faith Fellowship Valley)، بمدينة هارليزفيل، ولاية بنسلفانيا.